الخميس، 13 أكتوبر 2016

الشعر والشيوعية: آلان باديو*

ترجمة: محمد جمال


في القرن الماضي، بعض من كبار الشعراء حقيقة، في كل لغات الأرض تقريباً، كانوا شيوعيين. على سبيل المثال، كان هؤلاء الشعراء، بطريقة صريحة أو رسمية، ملتزمين بالشيوعية: في تركيا، ناظم حكمت؛ في تشيلي، بابلو نيرودا؛ في إسبانيا، رافائيل ألبرتي؛ في إيطاليا، إدواردو سانغونيتي؛ في اليونان يانيس ريتسوس؛ في الصين، آي تشينج؛ في فلسطين، محمود درويش؛ في بيرو، سيزار فاييخو؛ وفي ألمانيا، المثال المشرق فوق كل شيء هو بيرتولت بريخت. لكن يمكننا ان نستشهد بعدد كبير جداً من الأسماء الأخرى في لغات أخرى، في جميع أنحاء العالم.
هل يمكننا أن نفهم هذا الرابط بين الإلتزام الشعري والإلتزام الشيوعي كوهم بسيط؟ كخطأ،او كمغامرة؟ كجهل بوحشية الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية؟ لا أعتقد ذلك. أريد أن اجادل، على العكس تماماً، بأنه يوجد رابط جوهري بين الشعر والشيوعية، إذا ما فهمنا "الشيوعية" بأمانة في معناها الأساسي: الإهتمام بما هو مشترك بين الجميع. الحب العنيف، المتناقض، والمسعور للعيش المشترك؛ الرغبة في أن لا يتم الإستيلاء على ما ينبغي ان يكون مشترك وفي متناول الجميع بواسطة خدم رأس المال. الرغبة الشعرية في ان تكون أشياء الحياة مثلها مثل السماء والأرض، مثل مياه المحيطات، وحرائق الغابات في ليلة صيفية- أي أن تنتمي بالحق للعالم أجمع.
الشعراء شيوعيون لسبب رئيسي، وهو جوهري للغاية: اللغة هي مجالهم، في الغالب لغتهم الأم. الآن، اللغة هي ما يعطى للجميع منذ الولادة كمصلحة عامة تماماً. الشعراء هم أولئك الذين يحاولون جعل اللغة تقول ما يبدو إنها غير قادرة على قوله. الشعراء هم أولئك الذين يسعون لخلق أسماء جديدة داخل اللغة لتسمية ذلك الذي، قبل القصيدة، لم يكن له اسم. ومن الضروري للشعر أن تكون لهذه الاختراعات، لهذه المخلوقات، التي هي داخلية بالنسبة للغة، نفس مصير اللغة الأم : عليها أن تعطى للجميع بدون استثناء. القصيدة هي هدية الشاعر للغة. ولكن هذه الهدية، مثل اللغة نفسها، مقدرة للمشاع- أي لهذه النقطة المجهولة حيث ما يهم ليس شخص واحد على وجه الخصوص ولكن الجميع في صيغة المفرد.
هكذا تعرف شعراء القرن العشرين الكبار، في المشروع الثوري الجليل للشيوعية، على شيء مألوف لهم - وهو، بما أن القصيدة تعطي اختراعاتها للغة وبما أن اللغة تعطى للجميع، يجب أن يعطى العالم المادي وعالم الأفكار بشكل متكامل للجميع ، يجب أن لا يعود ملكية للقلة ولكن مصلحة مشتركة للإنسانية جمعاء.
هذا هو السبب في أن الشعراء رأوا في الشيوعية قبل كل شيء شكل جديد لمصير الناس. و"الناس" هنا تعني أولاً وقبل كل شيء الناس الفقراء، العمال، النساء المهجورات، الفلاحين المعدمين. لماذا؟ لأن أولاً وقبل كل شيء لأولئك الذين لا يملكون شيئاً يجب أن يعطى كل شيء. على القصيدة أن تعطى للأبكم، للجلاج، للأجنبي، وليس للثرثار،للنحوي، أو للقومي. علينا أن نعطي للبروليتاريا - الذين عرفهم ماركس بأنهم أولئك الذين لا يمتلكون شيئاً سوى جسدهم القادر على العمل - الأرض كلها، إضافة لكل الكتب، وكل الموسيقى، وكل اللوحات، وكل العلوم. علاوة على ذلك،فلهم يجب أن تعطى ، للبروليتاريا في جميع اشكالها، قصيدة الشيوعية.
المدهش هو أن هذا قد قاد كل هؤلاء الشعراء لإعادة اكتشاف شكل شعري قديم جداً: الملحمة. القصيدة الشيوعية هي في المقام الأول الملحمة البطولية للبروليتاريا. لذلك ميز الشاعر التركي ناظم حكمت القصائد الغنائية، المكرسة للحب، عن القصائد الملحمية المكرسة لأفعال جماهير الشعب. ولكن حتى شاعر في حكمة وهرمسية سيزار فاييخو لم يتردد في كتابة قصيدة بعنوان "أنشودة إلى المتطوعين للجمهورية". عنوان كهذا ينتمي بوضوح إلى نظام إحياء ذكرى الحروب، إلى الإلتزام الملحمي.
هؤلاء الشعراء الشيوعيون أعادوا اكتشاف ما سبق لفيكتور هوجو اكتشافه في فرنسا بالفعل: واجب الشاعر هو البحث في اللغة عن موارد جديدة للملحمة التي لن تكون بعد الآن عن الأرستقراطية الفرسان لكن ملحمة الناس اثناء عملية خلقهم لعالم آخر. الرابط الأساسي المنظم في أغنية الشاعر هو هذا: السياسة الجديدة قابلة لتنشأ بين، البؤس وصعوبات الحياة البالغة، الرعب من القمع، وكل شيء يستدعي شفقتنا، من جهة، وبين التجييش، الكفاح، الفكر الجماعي، العالم الجديد - وبالتالي، كل شيء يستدعي إعجابنا، من جهة أخرى. إنه من هذا الدياليكتيك بين الشفقة والإعجاب، من هذا التعارض الشعري العنيف بين الإنحطاط والنهوض، من هذا الإنقلاب من الخضوع إلى البطولة، ينشد الشعراء الشيوعيون المجاز الحي، التصوير غير الواقعي، والقوة الرمزية. يبحثون عن الكلمات للتعبير عن اللحظة التي يتحول فيها الصبر الأبدي للمظلومين في جميع الأوقات إلى قوة جماعية لا تنفصم فيها الأجساد الثائرة والأفكار المشتركة.
هذا هو السبب أن لحظة واحدة - لحظة تاريخية فريدة - أنشدت بواسطة كل الشعراء الشيوعيون الذين كتبوا بين العشرينات والأربعينات من القرن العشرين: لحظة الحرب الأهلية في إسبانيا، التي جرت كما تعلمون من عام 1936 إلى عام 1939.
لنلاحظ أن الحرب الأهلية الإسبانية هي بدون شك الحدث التاريخي الأكثر كثافة في تعبئة كل فناني ومثقفي العالم. من ناحية لدينا الإلتزام الشخصي الجدير بالملاحظة للكتاب، من كل النزعات الأيدولوجية التي تقف بجانب الجمهوريين، بما فيهم بالتالي الشيوعيون: سواء كنا نتعامل مع الشيوعيين المنظمين، الإشتراكيين الديموقراطيين، اليبراليين الخالصين، أو حتى الكاثوليك المتحمسين، مثل الكاتب الفرنسي جورج برنانوس، القائمة استثنائية إذا قمنا بإضافة كل اولئك الذين تحدثوا علانية، كل الذين ذهبوا إلى إسبانيا وسط الحرب، وحتى خاضوا معارك إلى جانب القوات الجمهورية. من ناحية أخرى، عدد الأعمال الفنية العظيمة التي تم إنتاجها في هذه المناسبة ليس أقل من مذهل. لقد قمت بالفعل بالإشارة إلى كثير من الشعر. لكن لنفكر ايضاً في لوحة بابلو بيكاسو البديعة المسماة بالجورنيكا؛ لنفكر في إثنين من أعظم الروايات في نوعهما: الأمل لأندريه مالرو ولمن تقرع الأجراس للأمريكي إرنست همنغواي. الحرب الأهلية المرعبة والدموية في إسبانيا قامت بتنوير فن العالم لعدة سنوات.
أرى أربعة أسباب على الأقل للإلتزام الهائل والعالمي للمثقفين بمناسبة الحرب في إسبانيا.
أولاً في الثلاثينيات وجد العالم نفسه في أزمة سياسية وأيدولوجية ساحقة. لمس الرأي العام أكثر فأكثر أن هذه الأزمة لا يمكن أن يكون لها نهاية سلمية، لا يوجد حل توافقي أو قانوني. كان الأفق مفزع بالحروب الداخلية والخارجية. وسط المثقفين، كانت النزعة هي أن تختار بين توجهات متعارضة تماماً: التوجهات الفاشية والتوجهات الشيوعية. خلال الحرب في إسبانيا، هذا الصراع أخذ شكل حرب أهلية نقية وبسيطة. صارت إسبانيا هي الصورة الرمزية العنيفة للصراع الأيدولوجي المركزي للعصر.هذا هو ما يمكننا تسميته رمزية وبالتالي قيمة عالمية لهذه الحرب.
ثانياً، خلال الحرب الإسبانية، جاءت المناسبة للفنانين والمثقفين في جميع أنحاء العالم ليس فقط لإظهار دعمهم لمعسكر الشعب، ولكن ايضاً للمشاركة في المعركة بصورة مباشرة. وبالتالي ما كان رأي تحول إلى فعل؛ وما كان شكل من أشكال التضامن صار شكل من أشكال الأخوة.
ثالثاً، الحرب في إسبانيا إتخذت شكل عنيف صدم الناس. البؤس والدمار كانا حاضرين في كل مكان. المذابح المنظمة للسجناء، القصف العشوائي للقرى، قسوة كلا المعسكرين: كل هذا أعطى الناس فكرة عن ماذا قد يكون وماذا سيكون عليه في الواقع الصراع العالمي التي كانت الحرب الإسبانية هي مقدمته.
رابعاً، الحرب الإسبانية كانت اللحظة الأقوى ، ربما الفريدة في تاريخ العالم، لإدراك المشروع الماركسي العظيم: ذلك الذي عن السياسة الثورية الأممية الحقة. علينا ان نتذكر ما الذي عناه تدخل الكتائب الدولية: لقد أظهروا أن التعبئة الدولية للعقول كانت ايضاً، وقبل كل شيء، تعبئة دولية للناس. انا افكر في المثال الفرنسي: الآلاف من العمال، غالباً شيوعيون، رحلوا كمتطوعين لخوض معارك في إسبانيا. ولكن كان هنالك أيضاً أمريكيون، ألمان، إيطاليون، روس، أناس من كل الدول. هذا التفاني الدولي النموذجي، هذه الأممية الموضوعية الجوهرية، ربما تكون الإنجاز الأكثر لفتاً للنظر لما كان ماركس يفكر فيه، الذي يمكن تلخيصه في عبارتين: سلبياً، ليس للبروليتاريا وطن، موطنهم السياسي هو عالم الرجال والنساء الأحياء بأسره؛ إيجابياً، التنظيمات الدولية هي ما يسمح بالمواجهة وفي النهاية بالنصر الحقيقي على عدو الجميع، المعسكر الرأسمالي، بما في ذلك شكله الأكثر تطرفاً، وهو الفاشية.
هكذا وجد الشعراء الشيوعيون في الحرب الإسبانية سبب موضوعي رئيسي لتجديد الشعر الملحمي في إتجاه الملحمة الشعبية - تلك التي عن معاناة الناس وكذلك عن بطولتهم الأممية، تنظيمهم وإستعدادهم للقتال.


*مقتطف من الفصل التاسع من كتاب آلان باديو عصر الشعراء