الجمعة، 9 ديسمبر 2016

المسرح والعلم: انتونين آرتو

ترجمة: محمد جمال 


دائماً ما بدا لي المسرح الحقيقي مزاولة فعل خطير ورهيب، فعل يتم فيه الإستغناء عن فكرة المسرح والمسرحية إضافة إلى فكرة كل العلوم، كل الأديان وكل الفنون.
الفعل الذي اتكلم عنه يهدف إلى تحول حقيقي، عضوي وفيزيائي، للجسد البشري.
لماذا؟
لأن المسرح ليس ذلك الإستعراض التصويري الذي يطور فيه المرء واقعياً ورمزياًخرافةالمسرح بالأحرى هو هذا الاختبار القاس للنار واللحم الفعلي حيث بواسطة سحق تشريحي للعظام، للأطراف والمقاطع تتجدد الأجساد، هو الفعل الأسطوري لجعل الجسد يظهر فيزيائياً وبدون مداراة.
إن فهمتني بصورة صحيحة، سترى في هذا فعل أصيل بحق الذي سيبدو للجميع سخيف جداً ساذج جداً، في الحقيقة – لممارسته على مستوى الحياة الحقيقية.
فحتى اللحظة لا أحد يؤمن بأن الجسد يمكنه أن يتغير إلا عن طريق الزمن والموت.
الآن،أنا أكرر، الموت حالة مخترعة وهو يحافظ على نفسه حياً فقط عن طريق كل الرعاع السفلة من سحرة، معلمو ومشعوذو العدم الذين يربحون منه والذين لعدة قرون الآن يتغذون به ويعيشون به في حالة تدعى "باردو".
عدا ذلك، فالجسد البشري خالد.
انها تلك القصة القديمة ويجب أن يتم جلبها إلى الحاضر مرة أخرى بواسطة مواجهة هجومية.
الجسد البشري يموت فقط بسبب أننا نسينا كيف نحوله ونغيره.
أبعد من ذلك فهو لا يموت، هو لا يستحيل تراباً، هو لا يمر من خلال القبر.
واحدة من مزحات العدم الشريرة والتي تحصل عليها بالتالي الدين، المجتمع والعلم من الوعي البشري هي عن اقناعه في لحظة معينة على مغادرة جسده، جعله يؤمن بأن الجسد البشري فان ومكتوب عليه "الوداعبعد مدة قصيرة.
لا، الجسد البشري غير فان وخالد وهو يتغير، يتغير فيزيائياً ومادياً تشريحياً وظاهرياً يتغير بوضوح وعلى الفور، شريطة أن تكون على استعداد حقاً لأخذ المخاطرة المادية لجعله يتغير.
لقد وجدت من قبل عملية ذات رتبة أقل سحرية من العلم – والتي لم يتطرق لها سوى المسرح – بواسطتها الجسد البشري، حينما يتم التعرف عليه كشر، يرّحل، وينقل فيزيائياً ومادياً، مضوعياً، كما لو بصورة جزيئية، من جسد إلى آخر، من حالة خاسرة للجسد اختفت منذ مدة طويلة إلى حالة مرتفعة ومعززة للجسدولأجل ذلك كان يكفي أن توجه نفسك لكل القوى الدراماتيكية المدفوعة من تحت والهائمة للجسد البشري.
إذاً فالسؤال هنا هو الثورة، والكل يصرخ مطالباً بثورة ضرورية، ولكن أنا لا اعرف إن كان هناك ما يكفي من الناس قد فهموا بأن الثورة لن تكون حقيقية طالما أنها غير مكتملة فيزيائياً ومادياً، طالما لم تلتفت وتواجه الإنسان، تواجه جسد الإنسان نفسه وتقرر مرة و إلى الأبد مطالبته بأن يتغير.
الآن الجسد صار بذيئاً وشريراً بسبب أننا نعيش في عالم بذيء وشرير لا يريد للجسد البشري أن يتغير، والذي بتدبيره الخاص – من كل الجوانب ولكل الإتجاهات الضرورية – ارسل طاقمه السحري والهلامي من العبيد المدانين لكل مكان لمنع هذا الجسد من أن يتغير أبداً.
بهذه الطريقة فالعالم ليس شريراً فقط على السطح الخارجي، ولكنه جوفيا وسرياً يرعى ويصون الشر الذي جعله كذلك، ولقد جعلناه كذلك حتى أن كل شيء قد ولد من روح شريرة وفي مركز روح شريرة.
ليست الأخلاق فقط هي الملوثة، غلافنا الجوي الذي نعيش فيه نفسه ملوث فيزيائياً ومادياً بالشعر الفعلي، بالمظاهر الفاحشة، بالأرواح الحقودة، بالكائنات المعدية التي يمكنك رؤيتها بالعين المجردة شريطة أن تكون مثلي، عانيت منها طويلاً، مريراً وبصورة منهجية .
الهلوسة أو الهذيان غير واردين هنا:
لا، السؤال هنا عن عالم الأرواح الراسخ والمعقد والمقيت الذي فيه كل ممثل خالد، كل شاعر أزلي للأنفاس قد نذر لأن يشعر  دائماً بالأحزاب المخزية وهي تحول إلى قذارة أنقى معاركه.
ولن تكون هناك ثورة سياسية أو أخلاقية ممكنة، طالما أن الإنسان مستمر في كونه مثبت بطريقة مغناطيسية – حتى في ردود ،أفعاله العضوية والعصبية الأكثر بساطة وأولية – بواسطة النفوذ القذر لكل مراكز المبتدئين المريبة، الجالسون بإحكام في دفء البطانيات الكهربائية لإنفصامهم المزدوج يضحكون على الثورات والحروب، واثقون من أن النظام التشريحي الذي بني عليه وجود وديمومة المجتمع الفعلي على حد السواء لم يعد يعرف كيفية تغيره.
الآن هنالك في أنفاس البشر تحولات وفواصل في النغمة ، من صرخة إلى أخرى، وانتقالات حادة بواسطتها انفتاحات وانطلاقات جسد الأشياء الكامل يمكن تتخلق فجأة، الأمر الذي يمكن أن يدعم أو يذيب العضو مثل شجرة تثبتها وتدعمها بواسطة الجبل العظيم لغابتها.
الآن الجسد يمتلك أنفاس وصرخات تمكنه من العمل في الدرك الأسفل الفاسد للكائن الحي ونقل نفسه بوضوح إلى أعلى لتلك المستويات المتألقة الرفيعة حيث الجسد المتفوق ينتظره بالفعل.
في هذه العملية، في أعماق الصرخات العضوية العمياء للأنفاس المقذوفة، تحدث كل الحالات الممكنة للدم والمزاج، كل معركة الشظايا والأشواك للجسد تغدو جلية، منبثقة من بين الوحوش الزائفة للإنفصام الروحي والحساسية.
لقد كانت هناك فترات غير مشكوك فيها في تاريخ الزمن حيث جرت هذه العملية السيكولوجية وحيث الإنسانية الشريرة لم تحظ أبداً بالفرصة لحشد قواتها معاً وتطوير، كما هي الحالة الآن، وحوشها الصادرة عن المضاجعة.
إذا وصلت الجنسانية البشرية، عند نقطة محددة ولأعراق محددة، لهذه النقطة السوداء، وإذا كانت هذه الجنسانية تنجب تأثيرات فاسدة، سموم جسدية فظيعة تشل الآن كل جهود الإرادة والإحساس وتجعل من محاولات التحول والثورة الكاملة والحاسمة مستحيلة – إذا كان الأمر كذلك، فبسبب أنه قد مرت قرون بالفعل رفضت عملية تحوير سيكلوجية معينة وتحول عضوي حقيقي للجسد البشري، وبواسطة رجسهم، بواسطة وحشيتهم المادية اللوطية واتساعهم قد رموا في ظلال الليالي النفسية الفاترة كل الدراما السيكلوجية ، المنطقية والدياليكتيكية للقلب البشريأنا أعني أن الجسد يكبل أنفاسه، وهذه الأنفاس تقيد الأجساد التي ضغط خفقاتها والضغط الجوي الفظيع تبيد، متى ما نشأت، كل الحالات النفسية أو المشبوبة بالعاطفة الي يمكن للوعي أن يستحضرها.
هناك درجة من التوتر، من الإنسحاق، من العتمة الكثيفة، من الرفض المتراكم للجسد التي خلفت وراءها كل الفلسفة، كل الدياليكتيك، كل الموسيقى، كل الفيزياء، كل الشعر، كل السحر.
لن أريك اليوم ما يحتاج إلى ساعات كثيرة من التمارين المتدرجة لمجرد جعل نفسه يظهر؛ بالإضافة إلى ذلك فسأحتاج إلى مساحة وهواء، وخصوصاً إلى عزم لا امتلكه.
ولكنك بالتأكيد ستفهم من النصوص التي ستتكلم قادمة من اولئك الذين تكلموها، الصرخات، الانطلاقات الحرة لصدق في طريقه إلى هذه الثورة الشاملة للجسد التي بدونها لايمكن تغيير أي شيء.

السبت، 3 ديسمبر 2016

بوكوفسكي: قصيدتان


ترجمة: محمد جمال

 
***يوم ركلت رزمة نقدية خارج النافذة***
 
اقول لك، يمكنك اخذ عماتك
  
واعمامك الأغنياء

واجدادك وآباءك

وكل نفطهم القذر

وديكهم الرومي الجامح

والجاموس

وكل ولاية تكساس

أعني، انفجاراتك

ونزهات السبت الليلية،

ومكتبتك ال2-بت

ورجال المجالس البلدية المخادعين

وفنانيك الشواذ-

يمكنك اخذ كل هذا

وجريدتك الإسبوعية

واعاصيرك الشهيرة

وفيضاناتك الوسخة

وكل قططك ذات العواء

واشتراكك في مجلة لايف،

واحشريهم، صغيرتي،

احشريهم.

يمكنني حمل المعول والفأس مرة أخرى (أعتقد)

ويمكنني أن أجني 25 دولار في 4 جولات (ربما)؛

بالطبع، انا في الثامنة والثلاثين

ولكن صبغة قليلة يمكنها ان تزيل الشيب من 

شعري؛

ومازال باستطاعتي كتابة قصيدة (احياناً)،

لا تنسي ذلك، حتى وإن لم تكن مجزية،

فهي افضل من انتظار الموت والنفط،

وصيد الديك الرومي الجامح،

وانتظار العالم ليبدأ.



حسناً، ايها المتشرد، قالت،

أخرج.

ماذا؟ قلت.

أخرج.

 لقد القيت بنوبة غضبك الأخيرة.

لقد تعبت من نوبات غضبك الملعونة:

أنت دائماً تتصرف مثل شخصية في مسرحية 

لأونيل.


ولكنني مختلف، صغيرتي، لا يمكنني فعل شيء

حيال ذلك.


أنت مختلف، حسناً!

يا إلهي، مختلف كيف!

لا تصفع الباب عندما تغادر.


لكن، صغيرتي، انا احب أموالك!


لم تقل أبداً من قبل

أنك تحبني!


ماذا تريدين

كاذب ام عشيق؟


لست اي منهما!

أخرج، ايها المتشرد، أخرج!


... لكن صغيرتي!


عد لأونيل!


مشيت إلى الباب،

أغلقته بهدوء ومضيت،

مفكراً: كل ما يردنه هو هندي أخرق

ليقول نعم ولا

ويقف فوق النار ولا يطالب بالكثير؛

ولكنك على وشك أن تصبح عجوزاً، يا رفيق:

المرة القادمة إخف أوراقك وأنت تلعب.


***وقفة مؤقتة***


امارس الجنس في الشمس، في شمس الصباح

في غرفة فندق

فوق الزقاق

حيث الرجال المساكين يفتشون عن زجاجات؛

امارس الجنس في الشمس

امارس الجنس بجانب سجادة

أكثر حمرة من دمائنا،

امارس الجنس بينما الأولاد يبيعون
 
العناوين الرئيسية وسيارات الكاديلاك،

امارس الجنس بجانب صورة فتوغرافية لباريس

وعلبة مفتوحة من سجائر تشيسترفيلدز،

امارس الجنس بينما الرجال الآخرين –

الحمقى المساكين –

يعملون.


تلك اللحظة ..

  من الممكن أن تكون سنوات لهؤلاء

 حسب طريقتهم في القياس،

ولكنها على بعد جملة واحدة فقط إلى الوراء في عقلي
 
هنالك العديد من الأيام

حيث تتوقف الحياة وتسحب وتجلس وتنتظر

مثل قطار على القضبان.


تجاوزت الفندق عند الثامنة

وعند الخامسة؛ هنالك قطط في الأزقة

وزجاجات ومتشردين،

تطلعت إلى النافذة في الأعلى وفكرت،

لم أعد اعرف أين أنت،

ومشيت وأنا اتساءل إلى أين تذهب الحياة

عندما تتوقف.






السبت، 12 نوفمبر 2016

قصيدة حب لكل النساء اللواتي عرفتهن: بوكوفسكي

ترجمة: محمد جمال


كل النساء كل قبلاتهن
طرقهن المختلفة ليحببن
ويتكلمن ويحتجن.

آذانهن، جميعهن يمتلكن آذان
وحناجر وفساتين
وأحذية وسيارات 
وأزواج سابقين.

عموماً
النساء دافئات للغاية
يذكرنني بالخبز المحمص مع الزبدة
حيث الزبدة ذائبة فيه.

هنالك نظرة في العين: لقد تم أخذهن
لقد تم خداعهن. 
لا أعرف تماماً ماذا أفعل لهن.

انا طاه مقبول
مستمع جيد
ولكن لم اتعلم أبداً كيف ارقص-
كنت مشغولاً حينها بأشياء أكبر.

لكنني استمتعت بأسرتهن المختلفة
مدخناً السجائر
محدقاً في السقوف.
لم أكن شرير ولا ظالم.
مجرد تلميذ.

انا اعرف أنهن جميعاً يمتلكن هذه الأقدام
و يتنقلن عبر الأرضية حافيات
بينما انا اشاهد 
اردافهن العفيفة في الظلام.
انا اعرف أنهن معجبات بي،
بعضهن يحببني حتى
ولكنني احب قلة فقط.

بعضهن منحني البرتقال والأقراص؛
اخريات تكلمن بهدوء عن الطفولة
والآباء والمناظر الطبيعية؛
البعض مجنونات تقريباً لكن
لا توجد واحدة منهن بلا معنى؛
بعضهن يحببن جيداً، اخريات
لسن كذلك؛ أفضلهن في الجنس
لسن دائماً الأفضل من  نواح أخرى؛
لكل واحدة نقائصها مثلما لي نقائصي
ولقد تعلم كلانا نقائص الآخر بسرعة.

كل النساء  كل النساء
كل غرف النوم كل السجاجيد
الصور الستائر، أنه شيء مثل الكنيسة
ولكن أحياناً يكون هنالك ضحك.

تلك الآذان تلك الأذرع
تلك المرافق تلك الأعين
تبحث عن الولع والانتظار
الذي كنت احبسه
الذي كنت احبسه.

الجمعة، 11 نوفمبر 2016

كتيب الشعر الجديد: مارك ستراند

ترجمة: محمد جمال

1 إذا فهم الرجل قصيدة،
سيحصل على المتاعب.

2 إذا عاش الرجل مع قصيدة،
سيموت وحيداً.

3 إذا عاش الرجل مع قصيدتين،
سيكون غير مخلص لواحدة منهما.

4 إذا حبل الرجل بقصيدة،
سيقل عدد أطفاله واحد.

5 إذا حبل الرجل بقصيدتين،
سيقل عدد أطفاله اثنين.


6 إذا لبس الرجل تاج على رأسه وهو يكتب،
سيتم اكتشافه.

7 إذا لم يلبس الرجل تاج على رأسه وهو يكتب،
فلن يخدع شخص سوى نفسه.

8 إذا غضب الرجل على قصيدة،
سيزدريه الرجال.

9 إذا استمر غضب الرجل على قصيدة،
ستزدريه النساء.

10 إذا شجب الرجل الشعر علانية،
سيمتلئ حذاءه بالبول.

11 إذا تخلى الرجل عن الشعر في سبيل السلطة،
سيحصل على الكثير من السلطة.

12 إذا تبجح الرجل بقصائده،
سيكون محبوباً من الحمقى.

13 إذا تبجح الرجل بقصائده وأحب الحمقى،
فلن يكتب مرة أخرى.

14 إذا تاق الرجل للاهتمام بسبب قصائده،
سيكون مثل الحمار في ضوء القمر.

15 إذا كتب الرجل قصيدة ومدح قصيدة زميل،
ستكون له عشيقة جميلة.

16 إذا كتب الرجل قصيدة ومدح قصيدة زميل بشكل مفرط،
سيقوم بإبعاد عشيقته.

17 إذا ادعى الرجل بأن قصيدة آخر هي له،
سيتضاعف حجم قلبه.

18 إذا ترك الرجل قصائده تذهب عارية،
فسيخشى الموت.

19 إذا كان الرجل يخشى الموت،
ستخلصه قصائده.

20 إذا كان الرجل لا يخشى الموت،
فربما تخلصه قصائده وربما لا.
.
21 إذا أنهى الرجل قصيدة،
فسيستحم في الأعقاب الفارغة لشغفه
وتقوم بتقبيله ورقة بيضاء.

الخميس، 13 أكتوبر 2016

الشعر والشيوعية: آلان باديو*

ترجمة: محمد جمال


في القرن الماضي، بعض من كبار الشعراء حقيقة، في كل لغات الأرض تقريباً، كانوا شيوعيين. على سبيل المثال، كان هؤلاء الشعراء، بطريقة صريحة أو رسمية، ملتزمين بالشيوعية: في تركيا، ناظم حكمت؛ في تشيلي، بابلو نيرودا؛ في إسبانيا، رافائيل ألبرتي؛ في إيطاليا، إدواردو سانغونيتي؛ في اليونان يانيس ريتسوس؛ في الصين، آي تشينج؛ في فلسطين، محمود درويش؛ في بيرو، سيزار فاييخو؛ وفي ألمانيا، المثال المشرق فوق كل شيء هو بيرتولت بريخت. لكن يمكننا ان نستشهد بعدد كبير جداً من الأسماء الأخرى في لغات أخرى، في جميع أنحاء العالم.
هل يمكننا أن نفهم هذا الرابط بين الإلتزام الشعري والإلتزام الشيوعي كوهم بسيط؟ كخطأ،او كمغامرة؟ كجهل بوحشية الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية؟ لا أعتقد ذلك. أريد أن اجادل، على العكس تماماً، بأنه يوجد رابط جوهري بين الشعر والشيوعية، إذا ما فهمنا "الشيوعية" بأمانة في معناها الأساسي: الإهتمام بما هو مشترك بين الجميع. الحب العنيف، المتناقض، والمسعور للعيش المشترك؛ الرغبة في أن لا يتم الإستيلاء على ما ينبغي ان يكون مشترك وفي متناول الجميع بواسطة خدم رأس المال. الرغبة الشعرية في ان تكون أشياء الحياة مثلها مثل السماء والأرض، مثل مياه المحيطات، وحرائق الغابات في ليلة صيفية- أي أن تنتمي بالحق للعالم أجمع.
الشعراء شيوعيون لسبب رئيسي، وهو جوهري للغاية: اللغة هي مجالهم، في الغالب لغتهم الأم. الآن، اللغة هي ما يعطى للجميع منذ الولادة كمصلحة عامة تماماً. الشعراء هم أولئك الذين يحاولون جعل اللغة تقول ما يبدو إنها غير قادرة على قوله. الشعراء هم أولئك الذين يسعون لخلق أسماء جديدة داخل اللغة لتسمية ذلك الذي، قبل القصيدة، لم يكن له اسم. ومن الضروري للشعر أن تكون لهذه الاختراعات، لهذه المخلوقات، التي هي داخلية بالنسبة للغة، نفس مصير اللغة الأم : عليها أن تعطى للجميع بدون استثناء. القصيدة هي هدية الشاعر للغة. ولكن هذه الهدية، مثل اللغة نفسها، مقدرة للمشاع- أي لهذه النقطة المجهولة حيث ما يهم ليس شخص واحد على وجه الخصوص ولكن الجميع في صيغة المفرد.
هكذا تعرف شعراء القرن العشرين الكبار، في المشروع الثوري الجليل للشيوعية، على شيء مألوف لهم - وهو، بما أن القصيدة تعطي اختراعاتها للغة وبما أن اللغة تعطى للجميع، يجب أن يعطى العالم المادي وعالم الأفكار بشكل متكامل للجميع ، يجب أن لا يعود ملكية للقلة ولكن مصلحة مشتركة للإنسانية جمعاء.
هذا هو السبب في أن الشعراء رأوا في الشيوعية قبل كل شيء شكل جديد لمصير الناس. و"الناس" هنا تعني أولاً وقبل كل شيء الناس الفقراء، العمال، النساء المهجورات، الفلاحين المعدمين. لماذا؟ لأن أولاً وقبل كل شيء لأولئك الذين لا يملكون شيئاً يجب أن يعطى كل شيء. على القصيدة أن تعطى للأبكم، للجلاج، للأجنبي، وليس للثرثار،للنحوي، أو للقومي. علينا أن نعطي للبروليتاريا - الذين عرفهم ماركس بأنهم أولئك الذين لا يمتلكون شيئاً سوى جسدهم القادر على العمل - الأرض كلها، إضافة لكل الكتب، وكل الموسيقى، وكل اللوحات، وكل العلوم. علاوة على ذلك،فلهم يجب أن تعطى ، للبروليتاريا في جميع اشكالها، قصيدة الشيوعية.
المدهش هو أن هذا قد قاد كل هؤلاء الشعراء لإعادة اكتشاف شكل شعري قديم جداً: الملحمة. القصيدة الشيوعية هي في المقام الأول الملحمة البطولية للبروليتاريا. لذلك ميز الشاعر التركي ناظم حكمت القصائد الغنائية، المكرسة للحب، عن القصائد الملحمية المكرسة لأفعال جماهير الشعب. ولكن حتى شاعر في حكمة وهرمسية سيزار فاييخو لم يتردد في كتابة قصيدة بعنوان "أنشودة إلى المتطوعين للجمهورية". عنوان كهذا ينتمي بوضوح إلى نظام إحياء ذكرى الحروب، إلى الإلتزام الملحمي.
هؤلاء الشعراء الشيوعيون أعادوا اكتشاف ما سبق لفيكتور هوجو اكتشافه في فرنسا بالفعل: واجب الشاعر هو البحث في اللغة عن موارد جديدة للملحمة التي لن تكون بعد الآن عن الأرستقراطية الفرسان لكن ملحمة الناس اثناء عملية خلقهم لعالم آخر. الرابط الأساسي المنظم في أغنية الشاعر هو هذا: السياسة الجديدة قابلة لتنشأ بين، البؤس وصعوبات الحياة البالغة، الرعب من القمع، وكل شيء يستدعي شفقتنا، من جهة، وبين التجييش، الكفاح، الفكر الجماعي، العالم الجديد - وبالتالي، كل شيء يستدعي إعجابنا، من جهة أخرى. إنه من هذا الدياليكتيك بين الشفقة والإعجاب، من هذا التعارض الشعري العنيف بين الإنحطاط والنهوض، من هذا الإنقلاب من الخضوع إلى البطولة، ينشد الشعراء الشيوعيون المجاز الحي، التصوير غير الواقعي، والقوة الرمزية. يبحثون عن الكلمات للتعبير عن اللحظة التي يتحول فيها الصبر الأبدي للمظلومين في جميع الأوقات إلى قوة جماعية لا تنفصم فيها الأجساد الثائرة والأفكار المشتركة.
هذا هو السبب أن لحظة واحدة - لحظة تاريخية فريدة - أنشدت بواسطة كل الشعراء الشيوعيون الذين كتبوا بين العشرينات والأربعينات من القرن العشرين: لحظة الحرب الأهلية في إسبانيا، التي جرت كما تعلمون من عام 1936 إلى عام 1939.
لنلاحظ أن الحرب الأهلية الإسبانية هي بدون شك الحدث التاريخي الأكثر كثافة في تعبئة كل فناني ومثقفي العالم. من ناحية لدينا الإلتزام الشخصي الجدير بالملاحظة للكتاب، من كل النزعات الأيدولوجية التي تقف بجانب الجمهوريين، بما فيهم بالتالي الشيوعيون: سواء كنا نتعامل مع الشيوعيين المنظمين، الإشتراكيين الديموقراطيين، اليبراليين الخالصين، أو حتى الكاثوليك المتحمسين، مثل الكاتب الفرنسي جورج برنانوس، القائمة استثنائية إذا قمنا بإضافة كل اولئك الذين تحدثوا علانية، كل الذين ذهبوا إلى إسبانيا وسط الحرب، وحتى خاضوا معارك إلى جانب القوات الجمهورية. من ناحية أخرى، عدد الأعمال الفنية العظيمة التي تم إنتاجها في هذه المناسبة ليس أقل من مذهل. لقد قمت بالفعل بالإشارة إلى كثير من الشعر. لكن لنفكر ايضاً في لوحة بابلو بيكاسو البديعة المسماة بالجورنيكا؛ لنفكر في إثنين من أعظم الروايات في نوعهما: الأمل لأندريه مالرو ولمن تقرع الأجراس للأمريكي إرنست همنغواي. الحرب الأهلية المرعبة والدموية في إسبانيا قامت بتنوير فن العالم لعدة سنوات.
أرى أربعة أسباب على الأقل للإلتزام الهائل والعالمي للمثقفين بمناسبة الحرب في إسبانيا.
أولاً في الثلاثينيات وجد العالم نفسه في أزمة سياسية وأيدولوجية ساحقة. لمس الرأي العام أكثر فأكثر أن هذه الأزمة لا يمكن أن يكون لها نهاية سلمية، لا يوجد حل توافقي أو قانوني. كان الأفق مفزع بالحروب الداخلية والخارجية. وسط المثقفين، كانت النزعة هي أن تختار بين توجهات متعارضة تماماً: التوجهات الفاشية والتوجهات الشيوعية. خلال الحرب في إسبانيا، هذا الصراع أخذ شكل حرب أهلية نقية وبسيطة. صارت إسبانيا هي الصورة الرمزية العنيفة للصراع الأيدولوجي المركزي للعصر.هذا هو ما يمكننا تسميته رمزية وبالتالي قيمة عالمية لهذه الحرب.
ثانياً، خلال الحرب الإسبانية، جاءت المناسبة للفنانين والمثقفين في جميع أنحاء العالم ليس فقط لإظهار دعمهم لمعسكر الشعب، ولكن ايضاً للمشاركة في المعركة بصورة مباشرة. وبالتالي ما كان رأي تحول إلى فعل؛ وما كان شكل من أشكال التضامن صار شكل من أشكال الأخوة.
ثالثاً، الحرب في إسبانيا إتخذت شكل عنيف صدم الناس. البؤس والدمار كانا حاضرين في كل مكان. المذابح المنظمة للسجناء، القصف العشوائي للقرى، قسوة كلا المعسكرين: كل هذا أعطى الناس فكرة عن ماذا قد يكون وماذا سيكون عليه في الواقع الصراع العالمي التي كانت الحرب الإسبانية هي مقدمته.
رابعاً، الحرب الإسبانية كانت اللحظة الأقوى ، ربما الفريدة في تاريخ العالم، لإدراك المشروع الماركسي العظيم: ذلك الذي عن السياسة الثورية الأممية الحقة. علينا ان نتذكر ما الذي عناه تدخل الكتائب الدولية: لقد أظهروا أن التعبئة الدولية للعقول كانت ايضاً، وقبل كل شيء، تعبئة دولية للناس. انا افكر في المثال الفرنسي: الآلاف من العمال، غالباً شيوعيون، رحلوا كمتطوعين لخوض معارك في إسبانيا. ولكن كان هنالك أيضاً أمريكيون، ألمان، إيطاليون، روس، أناس من كل الدول. هذا التفاني الدولي النموذجي، هذه الأممية الموضوعية الجوهرية، ربما تكون الإنجاز الأكثر لفتاً للنظر لما كان ماركس يفكر فيه، الذي يمكن تلخيصه في عبارتين: سلبياً، ليس للبروليتاريا وطن، موطنهم السياسي هو عالم الرجال والنساء الأحياء بأسره؛ إيجابياً، التنظيمات الدولية هي ما يسمح بالمواجهة وفي النهاية بالنصر الحقيقي على عدو الجميع، المعسكر الرأسمالي، بما في ذلك شكله الأكثر تطرفاً، وهو الفاشية.
هكذا وجد الشعراء الشيوعيون في الحرب الإسبانية سبب موضوعي رئيسي لتجديد الشعر الملحمي في إتجاه الملحمة الشعبية - تلك التي عن معاناة الناس وكذلك عن بطولتهم الأممية، تنظيمهم وإستعدادهم للقتال.


*مقتطف من الفصل التاسع من كتاب آلان باديو عصر الشعراء